البردوني.. شخصية الألف عام - خبر صح

المشهد اليمني 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البردوني.. شخصية الألف عام - خبر صح, اليوم الخميس 13 مارس 2025 12:03 مساءً

شخصية العظيم جديدة متجددة، كلما مضى عليها زمن اكتشف الناس فيها جوانب جديدة، لا تطمرها السنون، ولا تغيبها الدهور؛ بل تزيدها جلاء وقوة وحضورا. إنها طبيعة الصروح الخالدة لا تبلى وإن تقادمت بها الأزمنة.

البردوني شخصية الألف عام الهجري الثاني، كما كان الإمام أبو محمد الهمداني شخصية الألف عام الهجري الأول، وعربيا ثاني شخصية بعد فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري.

لك أن تقول: إنه فيلسوف تأدب، ولك أن تقول: إنه أديب تفلسف، وإلى جانب ذلك شاعر ومؤرخ يستنطق الأحداث ويفككها على غير مثال سابق، مطالع فصوله ومقالاته نسيج وحدها في البراعة الإبداعية، تقرأ بين نصه النثري قصيدة شعرية، كما قد تقرأ في قصيدته الشعرية مقالة نثرية، أو سردية تاريخية. حين تقرأ له قصيدة ما، تقرأ معها الفلسفة والتاريخ والأدب والأسطورة والدين، بحكم ثرائه الفكري وثقافته الموسوعية، وغزارة معجمه اللغوي الذي يستطيع من خلاله توظيف الرمز وتقريب الصورة.

عبدالله صالح حسن الشحف البردوني، المولود في العام 1929م على أرجح التقديرات في الحدا، محافظة ذمار. كف بصره صغيرا، في الخامسة من عمره، فالتحق بكتاب القرية، وفيه قرأ ثلث المصحف على يد فقيه القرية يحيى حسين القاضي، ثم انتقل إلى المدرسة الشمسية بمدينة ذمار، في العام 1937م، وفيها أكمل قراءة القرآن الكريم وتجويده على القراءات السبع، وعلوم اللغة، ولم يبلغ الرابعة عشر من عمره حتى كان قد بدأ يهمهم بالشعر قارئا متذوقا، وناظما مبتدئا، فقرأ دواوين الشعر الجاهلي والعصر الإسلامي التي أكسبته جزالة اللغة وثقافة المعجم الشعري.

وزاد نهمه على القراءة أكثر، فانتقل من المدرسة الشمسية بذمار إلى الجامع الكبير بصنعاء، في العام 1949م، ثم إلى دار العلوم بعده، وفيها برع وتفوق وتميز على أقرانه واشتهر أديبا وفقيها ولغويا وشاعرا، وفيها تمت إجازته على الطريقة السائدة آنذاك، فتم تعيينه فيها مدرسا للأدب والشعر في العام 1953م، وأثناء عمله فيها استزاد أكثر فأكثر في علوم الفلسفة والتاريخ والدين واللغة، ما أهله هذا للعمل "وكيل شريعة" محاميا بلغة اليوم، وهي المهنة المتاحة آنذاك لمن حذق شيئا من علوم الدين واللغة، فترافع في قضايا النساء، وصار يُطلق عليه لقب: وكيل المطلقات. وظلّ على هذه الحال حتى مطلع الستينيات. وقد توفيت والدته في العام 1958م، واقترن بزوجته الأولى فاطمة الحمامي في العام 1959م.
في العام 1961م صدر له أول عمل شعري بعنوان: من أرض بلقيس، عن أحد دور النشر بالقاهرة، وحينها بدأت شهرته تتجاوز المحلية إلى القُطرية، وقد قهر كل التحديات وتجاوز كل العقبات من حوله، سواء ما يتصل بظروفه الشخصية باعتباره كفيفًا، أم ما يتعلق بطبيعة الوضع العام في ذلك الزمن، زمن الإمامة الأسود.

كان أحد أحرار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الذين انضموا إليها، وعمل في إذاعة صنعاء بعد قيامها، وقد ألهمته الثورة فصولا من الإبداع، فكتب عنها لاحقا، وعن جذورها، كما خصص كثيرا من قصائده لها، مشيدا بالعهد الجمهوري، ومشنعًا بالإمامة الكهنوتية البغيضة. ويُعتبر برنامجه الأسبوعي في إذاعة صنعاء مجلة الفكر والأدب أيقونة البرامج الثقافية والأدبية لسنوات طويلة، منذ العام 1964م حتى وفاته؛ علما أنه قد عمل مديرا لإذاعة صنعاء في العام 1969م حتى العام 1970م، ثم عُين مديرًا للبرامج في الإذاعة إلى عام 1980م، كما عمل مشرفًا ثقافيًا على مجلة الجيش من 1969م إلى 1975م، وكان له مقال أسبوعي في صحيفة 26 سبتمبر بعنوان "قضايا الفكر والأدب" ومقال أسبوعي في صحيفة الثورة بعنوان "شؤون ثقافية".

البردوني شاعر الأسئلة، حيث أبدع في المونولوج الداخلي للنص الشعري، يسأل ويجيب بأدق العبارات وأوجز الكلمات، في صورة إبداعية نادرة، وعلى غير مثال سابق في الشعر العربي، ما يجعل النص ديناميكيا مفعما بالحركة والصورة الراقصة، قصيدة "سندباد يمني على مقعد التحقيق" أنموذجا.
وكم مُتَّ مرات؟ كثيرًا كعادتي تموتُ وتحيا؟ تلك إحدى مصائبي

الصورة الإبداعية في شعر البردوني
أن يبدع شاعرٌ مبصرٌ في رسم صورة شعرية ما فذلك إبداع في حدود العقل والمعقولية، لأن استجلاب الصورة واستدعاءها من البعيد، لتقريبها قائم على مشاهدات حسية سابقة، لكن أن يبدعَ كفيفٌ برسم صورة شعرية، وليس مجرد رسم عابر فحسب؛ بل إتقانا للوحة نادرة التركيب، متأرجحة تارة بين السريالية، وتارة بين الانطباعية أو الواقعية. نلمح ذلك في عدد من التراكيب الشعرية للشاعر التي أتحفنا بها فوق ما نتصور.
فتسحب الشمس ذيلا وتلبس الليل معطف

وكما غاصَ المعري في لجج الأفكار العميقة وأسئلة الحياة والوجود بعمقها الفلسفي، قصيدة "غير مجدٍ في ملتقي واعتقادي" أنموذجا، فإن البردوني قد فعل ذلك بكل اقتدار في أكثر من قصيدة له، قصيدة "فلسفة الجراح" أنموذجا.
ماذا أحس؟ وآه حزني بعضه
يشكو فأعرفه وبعض مبهم
بي ما علمت من الأسى الدامي وبي
من حرقة الأعماق ما لا أعلم
بي من جراح الروح ما أدري وبي
أضعاف ما أدري وما أتوهم
وكأن روحي شعلة مجنونة
تطغى فتضرمني بما تتضرم
وكأن قلبي في الضلوع جنازة
أمشي بها وحدي وكلي مأتم

المربد والنجومية العربية
في مهرجان أبي تمام في الموصل من العام 1971م، وفي ذكرى ألفية أبي تمام ذاع صيت البردوني عاليا بقصيدةٍ كانت غرة القصائد الشعرية التي ألقيت يومذاك، من قبل شعراء آخرين كنزار قباني ومحمود درويش وعمر أبي ريشة، تحدث عنها الدكتور علي جعفر العلاق بأسلوب أدبي بديع. ومطلعها:
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذبُ
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
وفي مهرجان شوقي وحافظ في القاهرة في العام 1981م ألقى قصيدة "وردة من دم المتنبي" قيل عنه أنه اتحد فيها اتحادا بالمتنبي نفسه، فكان متنبيا بردونيا باقتدار.

الإمامة في أدب البردوني
كايّ مُستنيرٍ ومُفكرٍ يمنيٍ كان البردوني ــ رحمه الله ــ يعي تاريخَ الإمامة تمامَ الوعي، لسببين اثنين:
الأول: لأنه عاش فترةً من حياته المبكرة إبان حكمها
الثاني: لأنه قرأ تاريخها بوعي المفكر وعمق الفيلسوف المستبصر.
كان البردوني من أوائل المواجهين والمناوئين لحكم الإمامة السلالي العنصري، ناظما العديد من القصائد في ذلك، ومنها أطول قصيدة شعرية له، هي قصيدة "حكاية سنين" التي استغور فيها تاريخ الإمامة وجناياتها وقبائحها، وكلها قبح، وكلها سوء، وفيها يقول عن كرادلة الإمامة:
المسبلين على الذئاب
البيض أجنحةَ الرعاية
الناسجين عروقَهم
لمواكبِ الطاعون راية
مَن حوّلوا المستنقعات
الجائعات الى النفاية
أنصافِ آلهةٍ مطوقة
بأسلحةِ العناية
ووجوهُهم كاللافتات
على مواخيرِ الغواية
كانوا ملوكا ظلّهم
حرمٌ ورقيتُهم حماية
فلحومُنا لخيولهم
مرعىً وأعظُمُنا سقاية
وبيادر تعطيهمو
حبّاتِ أعيننا جباية
والله والإسلام في
أبواقهم بعضُ الدعاية
أيامَ كانت للذباب
على الجراحات الوصاية
أيامَ كان السلُّ يأكلنا
وليس لنا دراية
وأبي يعلمنا الضلالَ
ويسأل الله الهداية

رحم الله عظيم اليمن الأستاذ البردوني، فقد توقف قلبه عن الخفقان في أغسطس 1999م، بعد أن رفد المكتبة اليمنية بعشرات المؤلفات والدواوين الشعرية والدراسات التاريخية والأدبية، وحفر اسمه خالدا في ذاكرة التاريخ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق