نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
باذيب.. الغائب الحاضر في ذاكرة الحركة الوطنية - خبر صح, اليوم السبت 8 مارس 2025 02:15 مساءً
لبعض الناس تميز ملحوظ منذ طفولتهم، يولدون بموهبة فطرية نادرة، تؤهلهم للعب أدوار قيادية على مسرح الحياة العامة من وقت مبكر دون انتظار لحكمة الشيوخ أو مراحل التجربة، يجمعون بين همة الشباب وحكمة الكبار في آن واحد، وهذا من النادر القليل، وعادة ما يكونون غير معمّرين، سرعان ما يوافيهم الأجل وهم في ذروة نشاطهم البدني والعقلي، ونماذج التاريخ أكثر من أن تُحصى أو تُستقصى.
عبدالله عبدالرزاق المولود في مدينة الشحر بمحافظة حضرموت، في العام 1931م وابن عدن التي ارتحل إليها صغيرا، والتحق بمدرسة بازرعة الإسلامية الخيرية التي درس فيها الابتدائية والإعدادية، كما درس الثانوية التي لم يكملها في إحدى المدارس الحكومية هناك.
عُرف بشغفه الجم بالقراءة والكتابة من وقت مبكر من طفولته، حتى أصبح ذلك الكاتب الكبير والمنظر اليساري العتيد، وأحد اللاعبين الكبار في توحيد مختلف الفصائل الوطنية المتصارعة؛ حيث شارك في تشكيل التنظيم السياسي الموحد، ومن ثم إقامة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية.
عشقَ الأدب والشعر والفلسفة والتاريخ من وقت مبكر، فتعمق في قراءتها، ومن هنا تشكلت ثقافته الموسوعية التي منحته تلك الروح الثورية والوطنية، وتخلق لديه الموقف العملي بتوازٍ مع الموقف النظري، فكانت تلك الروح الجمهورية، بثقافتها الوحدوية، المؤطرة برؤية سياسية عميقة.
كان عبدالله عبدالرزاق باذيب أحد أبرز نجوم الصحافة منتصف القرن الماضي، لا في اليمن فحسب؛ ولكن على مستوى الجزيرة العربية، بثقافته الموسوعية، وقلمه السيال، بموقفه العتيد، ورؤاه الواسعة. عمل على تثقيف نفسه بنفسه، فكان أول أمين عام لحزب الاتحاد الشعبي الديموقراطي، الحزب الماركسي الأول في الجزيرة العربية.
أسس في العام 1949م مجلة المستقبل الشهرية، ولا يزال طالبا في الثانوية، وهي المجلة التي ذاع صداها كثيرا في الأوساط الشعبية جنوب الوطن، وساهمت مساهمة جادة في رفع منسوب الوعي الوطني، ومقارعة الاحتلال البريطاني، وتشكيل ثقافة وطنية مقاومة، وقد توقفت بعد فترة، بسبب ظروفها المالية، فعمل محررا في صحيفة النهضة الأسبوعية، ثم سكرتيرا لها، حتى توقفت هي بدورها في العام 1954م، كما عمل أيضا في صحف أخرى، مثل: "البعث" و "الفجر" و "الجنوب العربي"، وجميعها منارات وطنية في الوعي والتثقيف.
ورغم كل هذه المضايقات للفقيد المناضل باذيب، ورغم قسوة الظروف المحيطة، فقد واصل مشواره النضالي بكل صلابة وقوة ضد المحتل بعد أن غادر عدن إلى تعز، وأصدر من هناك صحيفة "الطليعة" الأسبوعية التي كان مكتبها هناك منطلقا للنضال ومقرا للأحرار المناضلين، ومن هذا العُش الصغير والمتواضع انبثقت الكوكبة الطليعية اليسارية في شمال الوطن التي تأسست خلاياها الأولى في سنة 1958م، والتي عرفت باتحاد الشبيبة اليمنية "أشدي"، والتي كان من أبرز قياداتها: عبدالغني علي أحمد، أول وزير للمالية والخزانة بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، والسياسي سلطان أحمد زيد، وأحمد صالح جبران، وعبدالله حسن العالم، أحد رواد التحديث في اليمن. وساهم هذا المكون في خلق وعيٍ تقدمي وثقافي مبكر في الشمال التي كانت جديدة على العمل السياسي آنذاك، بحكم طغيان الإمامة الجاثم على الشعب، والمتوجس من كل فكرة حداثية أو عصرية، خاصة بعد تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني الذي تحول عن حركة القوميين العرب.
كان باذيب ذلك المثقف العضوي "الجرامشي" من طراز خاص، جامعا بين الثقافة والمعرفة من جهة، والإعلام والنشر من جهة أخرى، أو قل: بين النظرية والتطبيق على نحو متواز ونادر، وهو ما خلده رمزا سياسيا وثقافيا في الشمال والجنوب على حد سواء.
كان رائدًا من رواد الدعوة للديموقراطية واحترام الرأي والرأي الآخر، كما كان من الرواد الأوائل للدعوة إلى الوحدة بين شطري الوطن آنذاك، ولكن على أسس سليمة وراسخة، بلا ضم أو إلحاق، فانصدمت رؤاه ودعوته برفاق يحملون نزعة تطرف حادة، تنظيرهم في وادٍ والواقع في وادٍ آخر.
كان صوت الحكمة في ظرف زمني حاد متصارع الأمواج والأفكار، لا في اليمن فحسب؛ ولكن في المنطقة كلها، رافعا شعار: نحو يمن حر ديمقراطي موحد، مشيرا في سياق حديثه عن اليمن الواحد أن مسمى الجنوب العربي تسمية استعمارية، وهو ما كان يؤكد عليه أيضا الرئيس قحطان الشعبي كثيرا في كتاباته؛ لهذا كان موقفه الوطني من ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م مشرفا؛ إذ كانت صحيفته منبرًا جمهوريا للأحرار في الشمال التي خاطبت أبناء الجنوب أن الثورة في صنعاء هي ثورتهم أيضا، فتوافدت عناصر من الشطر الجنوبي على صنعاء، مناصرة الثورة، مقاتلة الكهنوت الإمامي تحت راية الجمهورية حتى قامت ثورة الرابع عشر من أكتوبر في الشطر الجنوبي من الوطن في أكتوبر 63م.
في العام 1965م أسس باذيب مجلة الأمل، وبدورها لم تدم طويلا، فتم إحراق مطبعتها الخاصة، من قبل بعض الفصائل المتطرفة، وأجهضت في بداية مشوارها، لكن النضال ظل مستمرا، رغم ما تعرض له إلى حد محاولة الاغتيال.
لم يقتصر نشاط باذيب على الجانب الثقافي أو الصحفي أو النقابي فحسب؛ بل كان وزيرا للتربية والتعليم في العام 1969م، وآنذاك قرر إلزامية التعليم والتعليم المجاني، وأنشأ مدارس محو الأمية، وأسس أول كلية للتعليم العالي التي أصبحت فيما بعد جامعة عدن.
وفي العام 1972م تم تعيينه وزيرا للثقافة، فانتعشت الفنون وازدهرت الثقافة في عهده، حيث تم إنشاء المسرح الوطني والمعهد الموسيقي، وصدرت مجلة "الثقافة الجديدة" عن وزارة الثقافة التي كانت منبرا من منابر التنوير لا في الجنوب فحسب؛ بل وفي الشطر الشمالي من الوطن الذي تأثر بالحركة الثقافية الجنوبية، وهكذا ما شغل منصبا ما إلا وحوله مشعلا من مشاعل التنوير الوطني؛ ولهذا حظي باحترام كل رفاقه الأحرار من اليسار وغير اليسار، وأصبح رمزا وطنيا إلى اليوم، ولا تزال كتاباته وأفكاره ملهمة إلى اليوم.
رحم الله المناضل والمثقف والسياسي الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب الذي غادر مسرح الحياة العامة وهو في أوج نشاطه وعنفوان شبابه في أغسطس من العام 1976م، وقد خلف وراءه رصيدا ضخما من النضال والوفاء لوطنه الكبير.
أخبار متعلقة :